04 - 05 - 2025

الحرب المدنسة | دير ياسين والعراق وأحمد خالد توفيق

الحرب المدنسة | دير ياسين والعراق وأحمد خالد توفيق

تعال ننظر للأمر من النافذة المسحورة، ولا تنظر لكل حدث على حدة، هناك تنافر ظاهري.. نعم.. لكنه يبقى ظاهريًّا.. تجمعها الحياة، والمصائب، وأننا كلنا في الهم عرب.

تعلمت من د. زكي نجيب محمود أن أعطي للقارئ رؤيتي؛ فيذهب من أراد ويبقى من أراد، ويختبر المريد معي أدواتي ودروبي لهذه النتيجة؛ لذلك سأضع أمامكم ما وصلت إليه؛ وهو أن هناك كراهية من المستعمر ووكلائه لأي وحدة عربية حتى لو كانت على مغنٍّ أو كاتب أو طاغية!

(1) دير ياسين

إضاءة: "لا داعي للخوف من العرب؛ فهم ضعفاء بطريقة بائسة" "حاييم وايزمان" للسفير الأمريكي الدائم في الأمم المتحدة..

متن:كانت خلاصة ما توصل إليه خبراء الاستعمار الأوروبي هو أن العالم يتغير، وأن الاستعمار العسكري قد ذن بالزوال، ولا بد من وجود بديل ما.. ولما لم يكن البديل جاهزا؛ فكان لا بد من التحضير له، وذلك عبر تجهيز خرائط جديدة للوطن العربي، تمتاز بوجود جيوب ملتهبة بين الدول (كشمير – حلايب وشلاتين – حدود المغرب والجزائر) لكن الأهم هو عزل الساحل عن الداخل، عزل بلاد الشام عن مصر، فيما عرف بـ "عزل الساحل عن الداخل" وعلى هذا قام الاتحاد الأنجلو فرنسي ممثلا في وزيرين كبيرين بصياغة خريطة جديدة للشرق المحتل عرفت بسايكس بيكو، ولم ينتبه كثيرون إلى أن هناك جزءًا شاغرًا - تركه الشيطانان - في قلب الخريطة، هو القلب؛ إذ هو ملتقى الطرق والأفئدة؛ ما عُرف سابقًا بفلسطين وسيعرف للأبد بفلسطين.

لم يتحرك الصهاينة لاحتلال فلسطين بهذا السبب لكنهم استغلوه، وربما تأتي هذه العبارة مناسبة تمامًا: تحدثت إليه عن لام اليهود، فلم يسمعني، وحدثته عن مصالح بريطانيا فترك الكأس البرندية التي كانت في يده، ولمعت عيناه، وبدأ يسمعني". العبارة للورد "شافتسبري" في وصف حديث له مع "بالمرستون" رئيس وزراء بريطانيا.

تلاقت الأفكار وبدأ التخطيط والتنفيذ، وعلى مدار خمسين عامًا تقريبًا (1897 مؤتمر بازل – 1948 إعلان قيام الدول اللقيطة إسرائيل) ومن قبلها وهناك حركة منظمة لمحو شعب، وإحلال أوشاب وأخلاط من كل مكان محله: اليهود.

لكن ووفقًا لهذا المخطط الذي سترعاه إنجلترا وفرنسا، وسيموله روتشيلد وأمثاله، لا بد من تفريغ هذا البلد وتغييرها ديموجرافيا وبما أن العروس (فلسطين) متزوجة (بها شعب) فلنمحُ هذا الشعب، ولنخرجها بكرًا أمام العالم: من هنا بدأت فكرة المذابح الجماعية التي نفذتها قوات صهيونية مدربة، عُرِفت بالعصابات الصهيونية، وهنا نذكر أن موشي ديان وزير الدفاع الصهيوني – ذا العصابة الموضوعة على إحدى عينيه – قد فقد هذه العين في إحدى عمليات القوات الخاصة الإنجليزية أثناء الحرب العالمية الثانية.

"وعشية الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948 (الساعة صفر) التي حدَّدتها بريطانيا لإنهاء انتدابها على فلسطين كانت قد أعدَت العدة لإعلان إنشاء دولة إسرائيل، وقبل ثماني ساعات من (ساعة الصفر) أعلن ديفيد بن جوريون إنشاء دولة إسرائيل على (78%) من مساحة فلسطين التاريخية البالغة 27 ألف كيلومتر مربع ، فيما بقي (22%) من هذه المساحة ليخضع تحت الإدارة العربية. الضفة الغربية ومساحتها (5661) كم مربع خضعت للإدارة الأردنية ومن ثم للضم والإلحاق، وقطاع غزة ومساحته (365) كم مربع خضع للإدارة المصرية" عامر راشد. فلسطين مائة عام بحثًا عن الحرية والعدالة. دار ابن رشد. 2017.

الخطة التي سيتم تنفيذها ببساطة: قتل سكان القرى الفلسطينية في مجزرة مرعبة وحرق القرية، وبهذا سيفر الفلسطينيون.. الأخطر وهنا سيتم بناء مدن صهيونية جديدة تحمل اسم المستوطنات. " "قامت بتدمير (421) قرية فلسطينية تدميرًا تامًا، وإزالتها عن الوجود، بالإضافة إلى تغيير معالم المدن الفلسطينية القائمة مثل حيفا ويافا وعكا وغيرها. وقامت إسرائيل ببناء (362) مستعمرة على أنقاض القرى الفلسطينية المدمرة في الفترة من عام 1949 وحتى عام 1969، وعملت على تغيير الواقع الديموجرافي، حيث مارست عملية تطهير عرقي واسعة وحثيثة أجبرت فيها نحو (900) ألف فلسطيني على مغادرة مدنهم وقراهم ليعيشوا لاجئين في البلاد العربية المجاورة، بعد ارتكاب العديد من المجازر والمذابح بحقهم، بالإضافة إلى السيطرة بالقوة المسلحة على المنازل والمزارع والممتلكات، للوصول إلى حالة من (النقاء الديني والعرقي). ووضعت مَنْ بقي ِمنَ الفلسطينيين في أرضهم تحت الحكم العسكري، وفرضت عليهم قانون طوارئ، للتضييق عليهم ودفعهم للهجرة خارج ديارهم. (راشد. نفسه)

لكن للقتيل لعنته التي لا تموت فقد خرج الفلسطيني حاملا مفتاح بيته الذي تهدم، وهو يعرف – أو لا يعرف – أنه عائد.. لكنه يردد عائدون.. وكانت أفظع المذابح وأشهرها مذبحة دي ياسين التي نفذت في 9 من أبريل 1948، وبهذا تدفع العروس الجميلة فلسطين ثمنَ الشتات العربي الذي ينتظر صلاح الدين ذا القارب الفلين أو السلام الدافئ.

(2) احتلال العراق

إضاءة: "لا مانع لدى أمريكا في ضم العراق ولايات مجاورة" "مسؤول أمريكي لصدام حسن قبل اجتياح الكويت.

متن:مع بدء حرب احتلال العراق في إسفار وجهها القبيح - المحتل لا الشرطي المهيمن لا المعولم - انتبه العرب إلى "صراع الحضارات" وتذكروا أن ريجان الذي كان يردد من التوارة الكثير في خططه، كان يرمي إلى أن المسلمين هم العدو الحقيقي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وسواء كان سقوط الاتحاد مبكرًا أو متأخرًا فإن الشيطان الأكبر لم ينتظر كثيرًا للدخول إلى العالم العربي بحذائه العسكري عبر بابه الواسع؛ الطغاة، فليس هناك ما يجمع العرب غير كراهيتهم لحكامهم الطغاة، وليست هناك لحظة أسعد في حياة العربي من رؤية هذا الطاغية مشنوقًا أو مصابًا بطلقات قاتل أو مسحول في الشارع، من هنا أرجو قراءة المدى الزمني الفاصل بين سقوط الاتحاد السوفيتي وحرب "تحرير الكويت".

ويدخل العرب مسرحية حرب احتلال العراق كما دخلوا مسرحية احتلال فلسطين بعد اللقطات الأولى، ودون أن يقرأوا أدوارهم؛ فيعلن فاروق – ببلاهة – أن الشيوعيين يحاربون الإسلام ويريدون أن يحتلوا القدس المسلم عبر عصابات غير منظمة ويدخل حرب 1948 بأسلحة متهالكة وجيش غير مدرب، فيما يدخل الفيلق العربي من الأردن الحرب بقيادة إنجليزية! ويكتشف الجميع أنهم يحاربون جيشًا يفوق عدد الجيوش العربية مجتمعة (يمكن الرجوع لموسوعة مصر والقضية الفلسطينية الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة، ولكتاب هيكل صراع العروش والجيوش، ولكتابات عبدالوهاب بكر) واكتشف الجميع أنهم عراة على المسرح.. ثم اكتشفوا أنه حان تبديل العراة.. دخل العرب حرب تحرير الكويت فانحازوا للحرب الغاشمة فيما عُرف بعاصفة الصحراء، ولو كلف مبارك أو غيره أنفسهم بالسعي لإخراج العراق عبر حلول سلمية، أو عبر حرب يقودها العرب، لما وجدوا أنفسهم يدفعون ثمنًا باهظًا حينما احتاجوا إلى مساندة الشيطان الأكبر الذي تمتم كاهنه: "إنه لا يستطيع أن يصك أذنيه عن ابتهالات الحرية في ميدان التحرير" لكنه بلا شك – فيما بعد إسقاط مبارك - قادرٌ على إسكات هذه الأصوات وقمعها وضربها بالغازات.

هكذا وتحت ذريعة احتلال الكويت – وهو حق يراد به باطل – ثم حرب إفقار منظمة للعراق منذ العقد الأخير في القرن العشرين حتى بدايات 2003 ليصحو العالم في نهايات مارس 2003 على قصف بربري للعراق، ثم على صورة المواطنين وهم يسقطون - بكل سعادة وسذاجة - تمثال الهالك صدام حسين، الذي سرعان ما تم القبض عليه، وبث لقطات إعدامه والمسلمون يحتفلون بعيد الأضحى.. وكان سقوط بغداد حاضرة العرب 9 من أبريل 2003.. سقوط مركز تجمع عربي تاريخي؛ فكما حظت القدس بمكانتها الدينية، حظت بغداد بمكانتها التاريخية العظيمة.

(3) أحمد خالد توفيق

إضاءة: "إلى الذين لا يعملون ويسوؤهم أن يعمل الخرون" طه حسين.

متن: "بصراحة أنا حسيت بالإحراج" هكذا قال لي ناقد عربي كبير، وهو يتحدث عن لقائه بأحمد خالد توفيق، وإعجابه بدماثة خُلقه، وسؤال الأخير له: "ألم تقرأ لي كتابًا واحدًا يا دكتور؟ لماذا لا تكتبون عني حتى لو بإظهار العيوب". والحق أن الناقد معذور فهناك حرب يومية من أنصاف الموهوبين الذين يحتلون الصفحات والمراكز الثقافية ويصدرون الكراهية والاستخفاف بهذه الكتابات.

اتصل بي الروائي صبحي موسى ليكتتبني في ملف عن الأكثر مبيعًاـ تحديدًا كتابة نبيل فاروق، وبدأت البحث في مشروع فاروق لأكتشف أن خلف الستار محركًا كبيرًا يعتبر هو سبب دخول الكتابة البوليسية والخيال العلمي للأدب المصري، وذلك عبر شعاره: "روايات مصرية مائة بالمائة" وكان مما توصلت إليه: " لقد تحمل حمدي مصطفى وحده عبء إنتاج هذه السلاسل وأظنه ربح كثيرًا على كل المستويات، وما زلنا ننتظر الإصدار الجديد من لعبة مقتبسة عن فيلم أو عن قصة، وما زال هوليود تنفق الملايين لإنتاج فيلم لجيمس بوند، وعلى الجانب الخر هناك قارئ متلهف ومشاهد أكثر تلهفًا.. فقط تابعوا عدد النسخ المبيعة لروايات نبيل فاروق أو أحمد مراد، ولا يعني هذا أنهما يكتبان الأفضل؛ فالمسألة لا تحسب هكذا؟ والأفضلية ليست من معايير النقد باعتبارها حكم قيمة مشكوك في صحته ومنهجيته، فقط هناك معايير لنجاح الرسالة| الكتابة منها ولاء الناس لها، والمبيعات مؤشر جيد لهذا." وكان: " العالم أرحب من أن نضيقه تبعًا لتصوراتنا وأفكارنا، وإن نجحنا في هذا فسنكتشف أننا صنعنا سجنًا خانقًا نتعارك فيه على سنتيمتر فاسد الهواء والروح، والأجدى – في رأيي – أن نوسع أفقنا وأن نساعد المجتهد والمبتكر، وتخيلوا الفائدة التي تعود على الجميع لو قابلنا كل جديد بما يستحق من اهتمام وعطف وامتنان.. تلك مهمتنا الأولى في هذا الكون."

وجاءت وفاة أحمد خالد توفيق صاحب الثلاثمائة كتاب؛ لتفجر المشكلة بشكل أعمق؛ فقطاع عريض من شباب مصر على اختلاف نشأتهم وأماكنهم وثقافتهم ووظائفهم أعلنوا حزنًا عامًّا غطى على أحد الأخبار التي كان يتوقع لها أن تثير الجدل، وبدلاً من أن ينطلق الكوميكس والنشطاء من إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، ومن أن تنطلق الميلشيات الإلكترونية الإخوانية والنظامية في حروبها.. غطت الدنيا أخبار موت الكاتب، ومقتطفات من أعماله، ومقالاته، ثم جاءت جنازته التي ملأها الشباب؛ ثم الهجوم الفاشي من كتاب ضعاف القامة والقيمة ومن أكبر أحزاب مصر؛ حزب أعداء النجاح، وبدا لافتًا اتهام الرجل بانتمائه للجماعة المحظورة حينًا، وبضعف أدبه حينًا.

من الطبيعي أن يهاجم الكتاب كاتبًا زميلا، خصوصًا في سياق كالسياق المصري؛ حيث الحظيرة تسيطر على خيال الكتاب المصريين؛ فينتظرون المنح والجوائز واللجان والندوات التي تلقى إليهم. يمكنكم الحصول على عدد الثقافة الجديدة ليرى هجوم شخص - يحسب على شعراء العامية – على شاعر عامية مصري متخذًا من الجماهيرية اتهامًا دامغًا، وأذكر أنني تناقشت معه في أن يشارك في سلسلة تبسيط للناشئين فسأل عن (ثمن النشر) ثم قال لي إنه بهذا سيحرم من نشر كتاب خر مكافأته أكبر في قصور الثقافة.

لكن ما لم يكن طبيعيًّا – ويثير الاشمئزاز - هو الهجوم على رجل ميت لالتفاف الشباب حوله، بل ومطالبة من كتبوا رثاءً للرجل بأن يقدموا درسًا نقديًّا عن أعماله، ويتساءلون كيف يلتف كل هؤلاء حوله، وهو كاتب ضعيف؟

ما يثير الاستغراب ويحتاج إلى تحليل، هو الهجوم على رجل واتهامه بأنه ينتمي لجماعة محظورة، وبأنه كان يضحك على عقول الشباب، وأن يقوم مذيع مشبوه بتوجيه رسالة لدراسة هذه الظاهرة الغريبة؛ حتى لا تتكرر.

إلى أن يحين الوقت لدراسة مفصلة عن الرجل أقول: من الحتمي أن يلتف الشباب حول جنازة أحمد خالد توفيق لأسباب منها: أنه كاتب رحل في ذروة عطائه ومتابعتهم له ولو رحل نبيل فاروق في 1998 مثلا لكانت الجنازة شبيهة بذلك، وأنه كاتب ظل بعيدًا عن النظام والإعلام، وأنه كاتب اختار صف الشباب الذي يرى الانتكاسات اليومية بدءًا من مفاوضات النيل في إثيوبيا، ومرورًا بالخطابات الهزلية والأخبار المفزعة عن تعيين أشخاص فاسدين في مواقع حساسة،هو لم يخن ميول متابعيه وهمومهم، هو طور التعامل مع شعور الشباب بالوطنية فلم يدغدغ مشاعرهم برجل مخابرات خارق في زمنٍ يعرفون فيه الحقيقة.

بكلمة: لو لم يكن الدكتور الكبير أحمد خالد توفيق إلا مثلاً أعلى للشباب في التزامه وتواضعه وتعبيره عما يشعر به الناس، وأن يصل هذا التعبير لمن يكتب لهم، لكفاه ذلك؛ أوشاب الكتاب، وعملاء النظام الذين أرعبهم أن يظهر الشباب طواعية من كل أنحاء مصر حول جثمان رجل عاش معتزلاً متواضعًا..

(4) الجامع الفريد

إضاءة: "عائدون.. الثورة مستمرة"

متن: كيف يمكن تفسير عودة العرب وطردهم للصليبين بعد مائة عام من سقوط القدس والخذلان؟ وكيف انتفض المصريون في حرب أكتوبر المجيدة ليهزموا أقوى جيوش العالم مجتمعة؛ إسرائيل وأمريكا؟

إن الخطر الأساسي على المستعمر ووكلائه الذين يتركهم ليحكموا بطغيان نيابة عنه، هو الوحدة، ومهما حاول هؤلاء دفع الشعوب إلى دوامات التفرقة، تبقى منارات خفية تهدي هذه الشعوب وتحفظ لها وحدتها؛ حتى إذا ن الأوان، اندفع الأحرار يرددون كلام أقطابهم الأبدال؛ فنسمع الكعكة الحجرية وكل عين تعشق حليوة، ويامه مويل الهوا يامه مويليا، وعابرون في كلام عابر..

صديقي الكاتب، عدوي المستعمر ووكلاءه: أرجو أن تقرأ رواية شرق النخيل، ومراعي القتل وسباق المسافات الطويلة، والملك هو الملك، ومنمنمات تاريخية، ولا تصالح وضم معها مقالات أحمد توفيق و.. و.. و.. لتعرف كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقف السماء، وأنه سيظل يولد من يلبس الدرع كاملة.. فانتظر.